الطريق
الأحد 19 مايو 2024 07:14 مـ 11 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

الدكتور يحيى خيرالله يكتب: المذيعة والمرآة والكذب !

على غير عادته استدرجته مرآته ليقف أمامها، ثمة أمر اختلف معه لم يتمكن من مقاومة جاذبيتها وهي تتحجج بربط رابطة عنقه الجديدة الفاخرة، كان سحر الوقوف أمامها غير مألوف تجتاحه لذة عنيفة بالنظر إلى ما يقتنيه من ثياب مع التأكيد على أن رابطة العنق كانت في تلك اللحظات من الأهمية بمكان،وهنا فكر برهة بإمعان... والسبب أنه اعتاد أن يربطها بعيدا عن المرآة وبإتقان؛ لتمرسه ودأبه على ذلك . وبينما هو منهمك في الانتهاء من ترتيب ملابسه للخروج، كما هو عليه دائما أنيقا بهي الطلعة حسن المنظر زاهر الملامح، وإذ به يتأهب للخروج خطف نظره ذاك الفجر الذي تسلل خفية بأشعته ليغتصب ليل رأسه عنوة، ارتبك فدقق النظر، انسحبت يده من رابطة العنق دون إرادة منه ، مستسلم لفاجعة حدث جلل أعلنت عنه مرآته التي لم تكن سوى واجهة تزيد من رونق أثاث البيت، من هو؟! أهو أنا؟ من هو ذلك المحتل الذي يريد بسط نفوذه على شعيرات رأسه، ما مدلول ذلك عليه؟.. مرة واحدة ودون سابق إنذار صرخ في وجه عدوه اللدود مستجديا فقال: يا إلهي.. كيف لي أن أتحمل هذا؟ هل هو الشيب؟؟ كيف أني لم أنتبه لهذا الشعر الأبيض المتسرب في رأسي .. متى وأين حدث ذلك؟ أهي غفلة مني ؟ ،،أعاد النظر إلى المرآة ليغوص في ظلام شعره الذي استسلم للعمر وتقدمه .. صدمه ذاك التغير في الجغرافية الزمنية على وجهه.

من الواضح أنه لم يدرك أن السنين تمر من عمره على عجل فتجعل هذا التغير يحدد خريطة ملامح وجهه بصورة مختلفة عن الماضي.. لم يتأنى شبابه ليقف أمام محطات كثيرة مختلفة ذات مفارقات عجيبة.. حنين.. صداقة..حب..سعادة..ألفة..ذكريات جميلة.. اشتياق.. فراق.. وداع.. وفي هذه اللحظة تحديدا أيقن السيد الأنيق تماما أن كل ذلك كان بفعل فاعل وفي غفلة منه هو من صنعها وانساق وراء سراب بهجتها وبهرجها.. انشغل عن حياته الخاصة بالعمل.. نسي نفسه ومشاعره وحياته وهو معلق آماله على قضية ظنها محورية في دنياه لم يؤمن بها سواه.. تلك القضية التي حصرت كل اهتمامه في دراسة وتوضيح التغيرات التي تحدث في العالم في الجغرافيا السياسية وتلك التحالفات التي تعيد رسم ميزان القوى في العالم من جديد ..وكلما فاض لسانه بلاغة في التحليلات كان فيض الإطراء والثناء من المحبين والمجاملين يزيد من تخدير وجدانه و تنويم أحاسيسه حتى لا يولي اهتماما لغير القضية السياسية.. استفاق بعد عناء بعدما خارت ميزان قواه قبل ميزان العالم الذي تفانى في الدفاع عن مبادئه، ألقى بجسده على مقعد أمام المرآه ..ليصبح في مواجهة معها ، لقد اكتشف أن التغيير الذي حدث في ليل رأسه أو الخريطة التي تحدد ملامح وجهه يعد تغييرا صارخا .. دق جرس هاتفه ولم ينتبه مرات عدة ، خطف نظره ضوء الهاتف ، انتفض من مكانه قائلا : يا الله .. التليفزيون .. البرنامج على الهواء .. ماذا افعل .. دق الهاتف .. رد بلهفة .. وإذ بصوت المخرج صارخا : اعتذري للمشاهدين يا أستاذة .. شكله مش جاي .. اتجه صوب التلفاز وفتحه .. تظهر المذيعة كأنها فتاة صغيرة رغم أنها أكبر منه سنا وذلك بفعل ما تستخدمه من طلاء وعمليات التجميل.. قائلة: أعزائي المشاهدين كان من المفروض أن يكون معنا اليوم ضيف عزيز .. ليشرح لنا ما يحدث الآن من تغيرات في الجغرافيا السياسية .. ولكن لا نعلم سببا لعدم حضوره ونرجو أن يكون بخير .. ترك التليفزيون وظل يردد في التليفون : ألو .. ألو .. رد المخرج : انت فين يا فندم .. على العموم دي فرصة أدخلك على الهواء لتعلن أنك تعرضت إلى حادث في الطريق وأنك بخير .. حتى نخرج من الموقف دا .. استعد يا دكتور أنت على الهواء.. يأتي صوت المذيعة : وأخيرا عزيزي المشاهدين هطمنكم على الضيف العزيز للبرنامج. للأسف تعرض إلى حادث سيارة .. وهو بخير .. حمد لله على سلامتك يا فندم.. ونحب نسمع صوتك لنطمئن السادة المشاهدين .. جاء صوته خافتا : أنا لست بخير .. فقد احتل فجر النهاية ليل رأسي .. وحدث تغير في الجغرافية الزمنية على وجهي .. أنا لست بخير .. فيتم قطع صوته عمدا .. وترتبك المذيعة .. لكن سرعان ما تتمالك نفسها لتمرسها على تلك المواقف وعلى وجهها ابتسامة ناصعة.. وتعلن: الحمد لله أننا سمعنا صوت ضيفنا الحادث بسيط.. توالت المداخلات على البرنامج .. الكل يريد أن يمتدح الضيف ويتمنى له الصحة والسعادة.. هو يتابع هذا الزيف الذي فعلته المذيعة .. ضاربا كفا بكف.. كيف تغيرون الحقائق .. وظل يردد هذا زيف وكذب على الناس .. الحقيقة أجمل مهما كانت ..أنا لم أتعرض لحادث.. جلس في صمت لدقائق لا يحرك ساكنا مزهولا .. جرس الباب يدق .. يتجه إلى الباب .. شاب يحمل باقة زهور .. يتابع الزهور باستغراب .. الشاب : ممكن توقع لي هنا بالاستلام .. استلم الورد وتوالت باقات الزهور .. كلها تحمد الله أن نجى من الحادث .. والبرنامج يتلقى المكالمات .. فمنهم من يقول : الحادث مُدبر .. ويأتي آخر : على الدولة أن تظهر الحقيقة .. ما زالت المداخلات مستمرة .. وما زال هو يتلقى باقات الزهور.. لم تكن المرآه كاذبة ولو أنها جماد كل مهمتها كشف المستور على العكس بل كانت أكثر صدقا من ذوي الأحاسيس والمشاعر الخاصة.. تبسم الضيف العزيز ونظر إلى المرآة ممتنا لها أنها منحته فرصة معرفة الحقيقة الفعلية التي غابت عنه..عندما كان يرسم ميزان قوى العالم ليقتنع أنه لم يتمكن حتى من رسم ميزان حياته هو .. اخترقت قلبه سكينة غريبة.. فاستقرت روحه..واطمأن قلبه.. وهاتف يهمس بداخله يتحدث عنه يصفه كما أراد لنفسه أن يكون.. فعلا تغيرت جغرافيا الزمن لديه وانتهى الأمر أنه الضيف العزيز الوقور.. شكر المرآة صاحبة الفضل في كشف الحقائق.. هي ربطة العنق التي جعلته يستفيق من غفوته.. و هو في نفس حالة الذهول من مواقف الزيف والنفاق وأمام شاشة التلفزيون ذات الصوت يقفز لخاطره هاتفا: انتهت المهزلة..وكفى تضليلا للناس.